الأحد، ديسمبر 09، 2007

إلغاء الدعم

إلغاء الدعم
كنت أؤثر دائماً البعد عن التعليق على حكومة الدكتور أحمد نظيف أو الصراعات السياسية الداخلية في مصر لأني أعتبرها صراعات طفولة سياسية تفتقر كثيراً إلى النضج و تتنافى دائماً مع المنطق و إجمالاً هي في الأغلب مجرد تصفية حسابات شخصية أو مجرد فهم خاطيء دائم و راسخ لا يتغير أبداً و يحاسب على النوايا قبل أن يبحث عن الوقائع ليحللها ، فمن ينظر إلى الصراعات السياسية الداخلية و يقارنها فقط بالمنطق السليم سيصل إلى نتيجة واحدة حتمية و هي نفض يديه و عقله و فكره من التأمل فيها فهي مضيعة للوقت لا أكثر و لا أقل
و لا يعني إهتمامي بالتعديلات الدستورية أنني تراجعت عن وجهة نظري في الإعراض عن متابعة و تحليل الأحداث الداخلية المصرية بقدر ما يعني أن هناك أحداث لها معنى و لها أيضاً حجم يجبرني على الإهتمام بها و متابعتها حثيثاً
و منذ تلك التعديلات و قد إستقرأت فيها توجهين إثنين أولهما القضاء على الإخوان المسلمين تحديداً و ليس أي تيار سياسي آخر و رغم كارثية هذا التوجه لكون تعديلاً في دستور بلد في حجم مصر يأتي لمجرد إبداء رد فعل سياسي بلا أي أثر يصب في صالح الشعب المصري إلا أن التوجه في حد ذاته حاز التأييد من الكثيرين و أنا منهم رغم تحفظي على كون وسيلة القضاء على تيار سياسي كانت تعديلاً في الدستور و هو ما يعكس حجم القلق اللذي تسببه جماعة الإخوان للنظام الحاكم كونه يعدل دستور الدولة من أجل القضاء عليهم ، لكنني أؤيد القضاء على جماعة الإخوان سياسياً فهم يثبتون كل يوم جهلهم المدقع بدهاليز السياسة و يثبتون أيضاً أن خلطهم الدين بالسياسة أضفى على جماعتهم تشوهاً كبيراً فلا هم تمكنوا من المضي كتيار ديني كونهم أعلنوا الكثير من التنازلات و اللتي قضت على شكل الجماعة الديني و لا هم إستطاعوا الدخول لدروب السياسة بإحتراف كونهم خلطوا السياسة بالدين و هما نقيضان لا يمكن خلطهما تماماً كازيت و الماء
و التوجه الثاني في تلك التعديلات الدستورية كان توجهاً يهدف إلى تحويل مصر من الإشتراكية إلى الرأس مالية ، و بغض النظر مؤقتاً عن الدافع وراء هذا التوجه و برؤية المحلل نجد أنه توجهاً محموداً أيضاً و هو أمر يتناسب مع الوسيلة اللتي خرج بها إلى النور و هي التعديلات الدستورية فمن الطبيعي أن أقوم بتعديل دستوري لتغيير شامل في النظام الإقتصادي للدولة
و كانت بداية هذا التوجه قبل التعديلات الدستورية متزامنة مع تعيين حكومة الدكتور أحمد نظيف و إنتقاء رجال أعمال لتولي مقاعد الوزارات ، و أنا أيضاً أؤيد ذلك التوجه من أجل صالح البلد رغم أن ثمار هذا التوجه قد لا يجنيها الجيل الحالي و ربما لن يجنيها أيضاً الجيل القادم و لكنها - إذا دامت - ستثمر ثماراً جيدة جداً مستقبلاً و تبقى إفرازات المرحلة الإنتقالية بين الإشتراكية و الرأسمالية مؤرقاً للحكومة و للمواطن على حدٍ سواء فليس من اليسير تغيير عقليات ولدت و نمت و عاشت في كنف الدولة الأم و الأب و الطبيب و المدرس و رئيس العمل إلى عقليات تقتصر عواطفها على خصوصياتها الشخصية و تنسى دور الدولة كأم و أب و راعي صالح يطيب الخواطر و يربت الأكتاف
الدولة ليست ملزمة بما يلزمها به الشعب من دعم للمأكل و المشرب و العلاج و التعليم و الوقود و غيرها فالأمر هنا - في ظلال الرأسمالية - يختلف تماماً لأن الرأسمالية تعني حساب المكسب و الخسارة و تعني أن يتقاضى العامل أجراً مساوياً لجهده و عمله لا أن يعمل الموظف 17 دقيقة في اليوم و ينتظر في نهاية الشهر أجره كاملاً .. هذا ما أعنيه بسياسة الدولة الأم و اللتي يعتبر شعبها أن عطائها دائم و مستمر دون مقابل
قد يقول قائل أن سياسة دعم غير القادرين هي سياسة عالمية و ليست حكراً على مصر فقط و أقول نعم هي بالفعل سياسة عالمية و لكنها أولاً تدعم غير القادرين فعلياً و بما يتلائم مع ظروفهم و إمكاناتهم و بما يتلائم مع إمكانيات الدولة و قوة إقتصادها كما أن الدعم في هذه الحالة يصل إلى مستحقيه الفعليين و ليس إلى الناس كافة
و ثانياً الدعم في الدول المتقدمة دعماً متقدماً بدوره و ليس كما نراه في مصر دعم شامل يستفيد منه أغلبية ليست في حاجة إليه كدعم البنزين مثلاً و اللذي يذهب غالبه إلى أصحاب الملايين من مالكي السيارات الفارهة و الدول المتقدمة لا تدعم السلع - دعم عيني - و إنما تدعم الفقراء بمعونات و كوبونات - دعم نقدي - ليستطيعوا مواجهة متطلبات حياتهم
و ثالثاً لا توجد دولة في العالم تدعم كل شيء مثل مصر فالشعب المصري إعتاد على أسلوب الرضاعة من الحكومة فهي تدعمه منذ الولادة في حليب الأطفال و ما شابه و تدعمه في مراحل التعليم المختلفة و تدعمه في العلاج و تدعمه في الزواج بإيجاد مساكن تتناسب مع ظروفه و تدعمه بعد الزواج ببطاقات تموينية و تدعمه بعد الإنجاب لتعاد الحلقة السالفة الذكر من جديد و لا توجد دولة في العالم مهما بلغ ثرائها و قوة إقتصادها بهذه القدرة على الإستمرار في رضاعة شعبها طوال حياته و إنما يقتصر الدعم على النقدي منه و على الفقراء فعلياً من شعبها
و تظل مشكلات المرحلة الإنتقالية كثيرة و لكن المشكلة الحقيقية في تغيير مفاهيم الناس من الإعتماد الكلي و الدائم على الحكومة إلى الإعتماد على النفس و على الكد و الجهد و العرق و المهارات الخاصة و العلم التحصيلي و البحث العلمي
هناك أيضاً الصائدون في الماء العكر و طبالي الزفة أصحاب الأقلام اللتي تبحث عن أي شيء لتهييج الرأي العام على الحكومة و أتعجب بشدة من المعارضة الغير موضوعية بالمرة في معارضتها و اللتي تتخذ من مسماها المعارضة معارضة لكل شيء و أي شيء فكل قرارات و أفعال الحكومة خطأ و كل توجهاتها غير صحيحة في نظر الإخوة المعارضين و لا أدري ألا يروا نقطة بيضاء واحدة في كل هذا السواد اللذي يغلف أبصارهم ؟
هذا لا يعني موضوعية مؤيدي النظام فالكل يستغل منبره للجعجعة و الصيد في الماء العكر و قد تكون لاموضوعية المؤيدين هي ما خلق لا موضوعية المعارضين و ربما العكس فلا طائل من البحث عن الباديء باللاموضوعية و إنما المهم هو أنها قائمة بالفعل لاموضوعية عجيبة في الرأيين المتضادين
لا يمكن إنكار المساحة الكبيرة من حرية التعبير اللتي أصبحنا ننعم بها ففي العصور الغابرة كانت حرية التعبير حلماً بعيد المنال أما اليوم تطول الإنتقادات كل الشخصيات بداية من رئيس الوزراء إلى رئيس الجمهورية و لا فرق بين منصب كبير كان أم صغير أمام الإنتقاد و ليت النقاد بنوا شيئاً بنقدهم بل ما أراه أن النقد هدام لدرجة مخيفة تضطر الحكومة أمامها إلى إتخاذ إجراءات تحسب عليها و تسقط رغماً عنها سقطات فاضحة أمام الرأي العام
الأعجب هو القضايا الساخنة اللتي تركز عليها الصحف سواء المعارضة منها أو الحكومية فهي قضاياً أقل ما توصف به هي التفاهة الشديدة و الفراغ الفكري بل قل الإفلاس الفكري و ربما الثقافي أيضاً
على سبيل المثال تهالك التحقيقات الصحفية و التحليلات العميقة لمسئلة زواج السيد أحمد عز و تندهش من طول مدة إهتمام الصحف بهذه المسئلة و تصاب بالذهول عندما تصل الأمور إلى إتهام الحزب الوطني و البرلمان معاً بتقويض دور المرأة في الحياة السياسية لأنهما سمحا للسيدة شاهيناز النجار بالإستقالة من البرلمان لكونها ستتزوج أو تزوجت بالفعل من السيد أحمد عز
ما هذه السماجة و التطفل على حياة الناس ؟ و لماذا كل هذا التهويل و النقد و التقريع لرجل سيتزوج ؟ ماذا لو كان هذا الرجل قد زنا مثلاً فإذا كانت كل هذه المقالات كتبت لأنه تزوج فماذا كان سيكتب إذا زنا ؟
ثم ما هو الرابط بين إستقالة نائبة في البرلمان و دور المرأة في الحياة السياسية ؟ إن إستقالتها تندرج تحت الحرية الشخصية و خصوصيات الحياة و كذلك زواجها فلماذا هذا التطفل السمج و التدخل المتسلق في حياة الناس ؟
مثال آخر فجره مسلسل تليفزيوني و هو مسلسل الملك فاروق فقد طفق الجميع يتحدث بحماسة متوارياً خلف فكرة مريضة أسست على نظرية المؤامرة الفريدة عن عودة الملكية إلى مصر و آخرون يتحدثون عن الدعم السعودي للمسلسل لتكريس حب الملكية في الوجدان و غيرها من البلاهات المنغولية و اللتي تدل على أن الشعب اللذي يصرخ في مظاهرات و إعتصامات و معارضات و إعتراض على السياسات هو في حقيقته شعب يسلم عقله للمسلسلات التليفزيونية و أحاديث النميمة عن زواج هذا و طلاق هذا ناهيك عن ملايين الجنيهات اللتي ينفقها الشعب على رسائل الموبايل و الموبايل نفسه و غيرها من وسائل المراهقين في التعبير عن أنفسهم
أشعر حقاً بتعاطف شديد مع النظام الحاكم و بالتحديد مع السيد الرئيس حسني مبارك على ما يعانيه من مواجهة شعبنا الفاضل للتطوير و التحديث و التغيير الفكري ، و تعاطفي هذا لا يعني تأييدي المطلق لكل القرارات و السياسات الرئاسية فهناك أخطاء و لا شك و لكن الحقيقة أنها لا تذكر أمام المعاناة اللتي يلاقيها أي حاكم يرأس الشعب المصري
نهاية فأنا أؤيد إلغاء الدعم العيني بالكلية - و هو ما سيحدث - و تحويله إلى دعم نقدي رغم أنني سأعاني كما سيعاني الشعب كله من جشع التجار و أطماعهم اللتي لا تنتهي و لكن المنطق يجبرنا على القبول و الموافقة فنصف ميزانية الدولة يذهب إلى الدعم أي أنه يذهب أدراج الرياح فلا يستثمر و لا يكون له أي عائد لأنه يتماثل مع شراء هدية و إهدائها لشخص ميت فلا الشخص يعود إلى الحياة و لا الهدية يمكن إستردادها