قبل فوات الأوان .. يا حكومة
مرة أخرى أجدني مدفوعاً للتعليق على سياسات الحكومة و لكن هذه المرة يشمل تعليقي المجالس النيابية و اللتي هي من المفترض أن تكون رقيباً على عمل الحكومة
أثار مشروع قرار برلمان الإتحاد الأوروبي و اللذي يضع ملاحظات حول الحريات المدنية و حقوق الإنسان في مصر ، أثار حفيظة الحكومة و هو أمر طبيعي و منطقي ذلك أن المشروع يضع ملاحظاته على أداء الحكومة المصرية في صدد حقوق الإنسان و الحريات المدنية و الأقليات الدينية ، و لكن الغير طبيعي و الغير منطقي هو إستياء البرلمان المصري من مشروع القرار و كذلك إستياء مجلس الشورى فالمجالس النيابية بديهياً تمثل رأي الشعب و حتمياً تحتوي على جزء معارض من أعضائها فضلاً عن أن أحد أبرز وظائفها هي مراقبة عمل الحكومة و تصحيح أخطائها و يصل دور تلك المجالس إلى حد سحب الثقة من الحكومة ، بينما اللذي حدث أن تلك المجالس النيابية تضامنت مع الحكومة في الغضب الجامح و الرد العصبي على مشروع القرار و هو ما يمثل خللاً تشريعياً و سياسياً فالمعني بالرد على هكذا قرارات هو الحكومة ممثلة في وزارة الخارجية و هي الجهة الوحيدة تشريعياً المنوط بها التعامل مع الخارج رسمياً و بالتالي عندما يتدخل البرلمان المصري و مجلس الشورى المصري في الأمر فهو نوع من خلط الأوراق و تبادل المهام بين ممثلي الشعب و بين من يحكمه و هو أيضاً دليل غير مباشر على مصداقية مشروع القرار و موضوعية إنتقاداته
الغريب أن إتفاقية الشراكة المصرية الأوروبية تمنح الطرفين الحق في مراقبة و التعليق على حجم الحريات المدنية لدى الطرفين و كون الطرف المصري لم يستغل هذا الحق في إنتقاد تجاوزات المجتمعات الأوروبية في حق الأقليات الدينية و القومية فهو تنازل طوعي من الجانب المصري عن ممارسة حق نصت عليه الإتفاقية و في ذات الوقت فهذا التنازل الطوعي لا يجبر الطرف الآخر على المعاملة بالمثل فضلاً عن أن ذلك الحق المتبادل بين الطرفين يثير تساؤل حول الرد المصري الغاضب على مشروع القرار فالمفترض أن الجانب المصري على دراية تامة بأن مشروع قرار البرلمان الأوروبي هو فعل طبيعي ناتج عما أتفق عليه في إتفاقية الشراكة و معنى إعتراضه على ذلك المشروع أنه إعتراض صوري يهدف أولاً التأثير على الجانب المعارض المصري داخلياً و يهدف ثانياً إلى محاولة منع أي إدانات دولية مستقبلاً تشير إلى نفس السلبيات و يهدف ثالثاً إلى طمئنة الجانب الأميركي إلى أن إنتقاداتهم السابقة لحقوق الإنسان في مصر و اللتي بموجبها تم منع مائة مليون دولار من المعونة الأمريكية لمصر و رهنها بإحراز تقدم على أرض الواقع قد لاقت صدى لدى الجانب المصري و أنها في طريقها إلى التنفيذ
و في سلبيات الحريات المدنية و حقوق الإنسان و العنصرية و إضطهاد الأقليات في دول الإتحاد الأوروبي لنا نظر لأن تلك التجاوزات يكون معظمها من جهة الشعب و المجتمع و أقلها من جهة الحكومة و هو أمر يكشف فشل إنسان القرن الواحد و العشرين في مجاراة الرقي الأخلاقي و الحقوقي المقترن بالزمن فالقرن الواحد و العشرين يجب فرضاً أن يكون قرن النضج الأخلاقي للحضارة الإنسانية فإنسان القرن الواحد و العشرين هو الإنسان اللذي تراكمت لديه المعارف و العلوم بحيث أدرك أن العلم و الأخلاق هما المحركان الرئيسيان لحضارته و تقدمه و أدرك كذلك أن القوة و القهر و الحروب هم من بدائيات الإنسانية و اللتي لا يصح أن تصل إلى هذا الرقي و التحضر و تظل معتمدة على البدائية في الحياة و في التعامل
و العصبية و الغضب الجامح اللذان ظهرا بشكل صارخ في رد الحكومة ممثلة في شخص السيد أحمد أبو الغيط وزير الخارجية المصري و ظهرا بشكل أوضح في ردود المجالس النيابية يدلان أن الرد جاء بلا دراسة و بدون روية و تفهم للأمور فإنتقادات حقوق الإنسان في مصر باتت مضغة في حلوق العالم تارة تأتي من الغرب و أخرى تأتي من أوروبا ناهيك عن الفضائيات اللتي لا يمر يوماً عليها إلا و تنتقد حقوق الإنسان في مصر
الأمر اللذي يجب أن يثير القلق لدى الحكومة و يبعث على التفكير فليس من المعقول و لا المنطقي أن تكون تلك الإنتقادات كلها كيدية كما أنه ليس من التمدن الرد على كل إنتقاد بالرفض و وصفه بأنه تدخل في الشئون الداخلية لبلد ذا سيادة و له حجم مصر السياسي و الإقليمي و له دور مصر الريادي في المنطقة و العالم ، بل أن هذه الأسباب المتمثلة في ثقل مصر و ريادتها تجبر الحكومة على بحث تلك الإنتقادات و أخذها مأخذ النصح و الإرشاد و ليس مأخذ الإملاء و الوصاية ، و حتى إذا كانت إملائاً و وصاية فهو أمر - للأسف - طبيعي لأن تلك الإنتقادات تأتي من دول تمنح مصر مليارات الدولارات و ملايين اليورو كمنح و مساعدات ، كما أن الحريات و الحقوق المدنية ليسا مجالاً للإختلاف و الإتفاق كملف إيران النووي على سبيل المثال و لكنها مسلمتان يفرضهما علينا و على العالم الوضع الإنساني و القانوني و الحضاري للبشرية و يجب أخذهما بعين الإعتبار و تلمس الخطوات الحقيقية و الفاعلة لإزالة أي إنتقاد يمس الحريات و الحقوق المدنية
و مأخذ آخر يبدو أكثر وضوحاً على الحكومة و هو الرد الغريب على بيان الجهاز المركزي للمحاسبات و اللذي اسقط الضوء بشدة على سلبيات الحكومة ، إذا كانت أي حكومة في الكون لها إيجابيات و لها سلبيات فالموضوعية و الإنصاف يحتمان عليها عدم المكابرة في مواجهة السلبيات عند ذكرها أما الإنكار بل و التطاول على رجل بحجم المستشار جودت الملط رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات فهو غرور غير مبرر و مكروه و يشكل خلق نجم شعبي و قبلة للمعارضة من شخص السيد المستشار جودت الملط و هو ما حدث بالفعل حيث بدأ التمجيد و التهليل من صحف المعارضة و الصحف المستقلة موجهاً للسيد المستشار جودت الملط رغم أنه رجل كل إنجازاته تتلخص في أداء واجبه بنية صافية و بتفاني و وطنية إلا أن تلك القيم في هذا الزمان لندرتها بات وجودها في شخص مجتمعة يجعل من هذا الشخص بطلاً أسطورياً و هي في حقيقتها أمراً طبيعياً و مفترضاً في معظم الناس
الحكومة للأسف تشتري كراهية الشعب بشكل محموم و لا تتعلم من أخطائها و تتصور أن إنجازاتها اللتي تتمثل في خلق مستقبل مشرق ستشفع لها عند رجل الشارع اللذي يعيش على مبدأ أحيا اليوم و أموت غداً
لا أنكر إيجابيات و إنجازات الحكومة و أتفهم الأسباب الموضوعية اللتي تقف خلف الزيادات الهائلة في الأسعار و أدرك صعوبة و مرارة المرحلة الإنتقالية بين الإشتراكية و الرأسمالية و لكن الغالبية العظمى من الشعب الكادح تنظر مجبرة تحت أقدامها و لا تتسامح أبداً مع المساس بمستوى معيشتها أياً كان و هو الأمر اللذي يثير الإحتقان و يبث الكراهية لتلك الحكومة خاصة مع المقارنات الغير منصفة مع دول الجوار و مع أزمنة غابرة تلك المقارنات اللتي تثيرها الصحف المعارضة و اللتي إحترفت الصيد في الماء العكر
لست واحداً من أثرياء هذا البلد و لست ممالئاً للحكومة و لست متملقاً للنظام ، كما أنني لست تابعاً لأي طيف أو فكر سياسي معارض أو مستقل و لست إخوانياً إنما أنا أريد الإصلاح بصفتي أحد أبناء هذا البلد و أحد اللذين يدينون لها بالولاء ، ولاء الإنتماء و الحب و الوطنية و ولاء التربية و النشأة و التكوين و ولاء الشخصية و الفكر و الكيان
المعارضة من أجل المعارضة أو من أجل كشف السوءات و إصطياد الفضائح و تسليط الضوء عليها لمجرد كسب سبق صحفي أو إعلامي هي في حقيقتها أرخص بكثير من الإلتفات إليها ناهيك عن إعتناقها و لكن المعارضة الحقيقية في التوجيه للصواب و إسداء النصح كما يترائى للناصح و كما يتناسب مع حجم متلقي النصيحة و تبقى الموضوعية و الإنصاف و قبلهما الإحترام و التقدير هي الأرض الصلبة و القاعدة الحضارية و الراقية للحوار المتمدن بين كل الأطراف سياسية كانت أو غير سياسية
لكل ما سبق أتمنى من الحكومة أن تنتبه لخطواتها القادمة فلم يعد في قوس صبر الشعب منزع و لم يفت بعد الأوان على إستدراك ما آلت إليه الأحوال المعيشية فلتعيد الحكومة حساباتها و توجه عنايتها إلى الطبقة الكادحة قبل أن تموت الآمال في حاضر أفضل لشعب يعيش غالبيته تحت خط الفقر بعدة خطوط متباعدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق