الخميس، فبراير 18، 2010

الفضيلة

الفضيلة

فردوس البشرية المنشود


جاد الزمان بعالم فيزياء ذو عقل أسطوري أثبت بأدلة قاطعة أن النسبية هي القانون السائد في هذه الكون و هو ألبرت أينشتين ، و لم يكن يتصور أينشتين أن تلك النسبية ليست حصراً على المادة فقط بل تمتد إلى المنطق و العقل و المباديء و القيم بل و الضمائر

الفضيلة هي كيان هلامي يفتقد لمعالم واضحة و أبعاد ثابتة فلكل منا فضيلته كما يتصورها و كما يريدها تماماً مثلما الضمير ذلك العضو المعنوي الخيالي و اللذي يتكون من قوانين و مباديء يصقلها الزمن في وجدان الانسانية لتتغير و تتبدل و تنقلب أحياناً رأساً على عقب

منذ تكون الكون و تشكل النجوم و المجرات و الكواكب و الأقمار ثبتت قواعد فيزيائية كقانون لا يمكن الفكاك منه ذلك لترسخ الثبات في الحياة و الموت ليستمد الانسان إستقراره الحيوي من ذلك الثبات و الديمومة في نظام الكون و بالتالي نظام حياته فقد أدى ثبات نظام الحياة المادية إلى إطمئنان الإنسان و ترسيمه لخطط مستقبله إعتماداً على ماضيه اللذي يمده ببصيرة ترى مستقبله متطابقاً كونياً مع ما مضى و قياساً بحاضره اللذي هو جزء من مستقبله و بداية لا تنتهي لماضيه

و منذ خلق الإنسان ككائن فريد يتميز بالعقل و المنطق و القياس ناهيك عن الذاكرة و اللتي تمنحه القدرة على التعلم و إكتساب الخبرات و الإستفادة من الأخطاء لعدم تكرارها و هو يبحث عن ميزان لمتطلباته و رغباته من ناحية و قوانين الحياة و كيان الآخرين من ناحية أخرى فإذا آثر الفرد صالحه و الإشباع التام لرغباته و تلبية جميع متطلباته سيواجه حينئذٍ حقيقة تبدو مفزعة تتمثل في سلب الآخرين حقوقهم و تحويل الحياة إلى خدمة فرد واحد فقط و هو ذاته و بالتالي برزت صعوبة شديدة في الوصول الى معادلة تمنح جميع أطراف الحياة حقوقاً متساوية و بالتالي ترسي مبدأ ما يسمى بالعدالة

تغيرت العدالة رغم فرضية ثباتها فالعدالة المجردة - في رأيي - تعني الظلم المجرد ذلك أن تكوين البشرية يجبر البشر على منح ذواتهم الأفضلية المطلقة مما يقلص فرص إرساء العدالة المطلقة على أرض الكوكب ناهيك عن تمييز بعض أفراد الجنس البشري عن البعض الآخر كسبيل لتوحيد المصير تحت عنوان القيادة فلكل مجموعة أو مجتمع لابد من وجود قائد لها تماماً كقيادة سفينة تحمل بين جنباتها العديد من البشر ، و من هنا بدأت تتدخل الإستثناءات في مجرى العدالة المطلقة لتحوله عن صحيح إتجاهه و لكن الإنسان اللذي كان صالحه يرتفع فوق كل المستويات آثر أن تكون تلك العدالة الممزقة هي مبدأ العدالة المطلقة كما يراه فسن الإنسان قوانينه الخاصة و اللتي منحت بعض أفراد مجتمع ما مزايا تتفوق على البعض الآخر ، و لم يأت الإنسان بذلك التوجه من فراغ أو من بنات أفكاره فلقد كان التاريخ معيناً ينهل منه مبرراته في خرق جدار العدالة بدئاً من الرسل و الأنبياء و مروراً بالملوك و الرؤساء و إنتهائاً بالعصابات و المجرمين ، كانت كل تلك الأمثلة التاريخية مرجعاً له ليخترق العدالة مبرراً ذلك الإختراق بتحري العدالة ذاتها

بينما العدالة تبحث عن مكتشفها كان الضمير يبحث عن مكوناته أيضاً ليتشكل و يصبح كياناً متحكماً في صاحبه و لما كان الضمير هو نتاج لمجموعة من القيم و المباديء كانت العدالة كقيمة هي أحد أهم مكوناته و معاييره و لما كانت العدالة تاريخياً كائن كسيح نتيجة الإستثناءات اللتي مزقتها كان الضمير بالتبعية كياناً مرناً طيعاً يبحث لصاحبه عن مبررات لإستثناءاته بدلاً من أن ينهي صاحبه عن تلك الإستثناءات ، و بالتالي باتت القيم و المباديء ذات طابع شخصي و تمثل وجهة نظر هدفها الرئيس هو الصالح ، الصالح هنا قد يسمى مجازاً بالصالح العام بينما الحقيقة أن الصالح العام هو في جوهره صالح خاص بمجموعة أو مجتمع أو دولة و بالتالي يعود ذلك الصالح العام صالحاً خاصاً يتجاهل آخرين بل قد يحطم حقوق هؤلاء الآخرين

و عندما يسمو الإنسان - كما يعتقد - على قوانين ذاته المنادية بالإشباع و التلبية يقترب - أيضاً كما يعتقد - مما يسميه الإنسان الفضيلة ، و تلك الفضيلة ما زالت تتأرجح تكويناً و حجماً بين زمن و آخر و بين مجتمع و آخر و بين إنسان و آخر فلكل منا فضيلته الخاصة و اللتي يتصور أنها الفضيلة المطلقة بينما الفضيلة المطلقة هي المحال بعينه بالنظر لكائن يسمى الإنسان لا يمكنه العيش دون الحاجة للآخرين و دون أن يشبع و يلبي رغباته و إحتياجاته

الفضيلة هي كل شيء حسن و هي تضاد الرذيلة و يقال أيضاً أن الفضيلة هي الحالة الوسطية بين حالتين متطرفتين فمثلا تكون الفضيلة هي الحالة اللتي تتوسط الإسراف و البخل أو الحالة اللتي تتوسط التهور و الجبن و تسمى في الحالة الاولى الكرم و الجود و في الحالة الثانية تسمى الشجاعة

يحضرنا هنا إشكالية كبرى في تعريف الفضيلة ففضيلة الشجاعة قد تمتد في تصور بعض العقول إلى لف حزام ناسف حول الجسد و تفجيره و يسميها هؤلاء بالجهاد بينما قد تتقلص في ذات المجال إلى البقاء في المنزل خشية التعرض لأذى و يسميها هؤلاء الحرص و كلتا الحالتين يسميهما صاحباهما بمسميات ترضيه و تريح ضميره بغض النظر عن النتائج أياً كانت

قد يقع إختلاف دائم بين الأشياء و مسمياتها و ينبع ذلك الإختلاف من تفاوت بشري في الحكم على الأمور و ينتج هذا التفاوت من تفاوت أكبر في قدرات و حواس و بيئات الأفراد كون الضمير يتشكل إعتماداً على الخبرات الشخصية بجانب القواعد الأساسية و لذلك سنت بعض الدول عقوبة الإعدام بينما حرمتها دول أخرى و لكل منهما مبرراته المقنعة لنفسه

فاللص مثلاً يجد من المبررات ما يقنعه أنه على صواب و يختلف الحكم على هذا الصواب بين لص و شرطي ، بينما السرقة في حد ذاتها مخالفة للقانون يمكننا أن نقول أن السرقة كانت مباحة حتى وضع قانون يجرمها و بالتالي قد نمعن النظر من جديد في مبررات اللص لنفسه

فقبل تحريم الخمر لم يكن الخمر محرماً و قبل تحريم الزنا لم يكن الزنا محرماً و قبل تحريم الربا لم يكن الربا محرماً ، ليس هذا فحسب بل أن المحرم في الشرق ليس بالضرورة هو محرم في الغرب فالربا متمثلاً في المصارف مباحاً في الشرق و الغرب على حدٍ سواء بينما الخمر المحرم في مجتمعات ما مباحاً في مجتمعات أخرى و لكل مجتمع مبرراته ، و ليس هذا فقط فقسوة العقاب على إتيان محرم تختلف بين مجتمع و آخر بل بين قانون و آخر بل أيضاً تختلف تلك القسوة و ذلك العقاب بين دين و آخر ، فالسعودية تقطع يد السارق و تجلد البعض تعزيراً بينما فرنسا تمنع النقاب و تبيح شرب الخمر و المسئلة لا ترتكن إلى الخلفية الأيديولوجية فحسب بل يمتد إختلاف المعايير في الأساس الفكري للحكم على الأشياء إلى المستوى الوجداني للمجتمع ، لأن المجتمع اللذي يرى أن سلب الفرد حياته أمراً يسيراً لن يجد غضاضة في قطع يده بينما المجتمع اللذي يجرم و يحرم سلب الفرد حياته سيجد آلاف الموانع في مجرد سجن الإنسان عقاباً له ، و المسئلة تحجمها الخلفية المجتمعية في الأساس لأن مجتمعات البادية لا تجد في القسوة بجميع أشكالها قبحاً لكون القسوة في الأساس تملأ سمائهم و أرضهم و خطوات حياتهم اليومية بينما مجتمعات المدنية ذات الفكر المتطور و اللتي تبذل قصارى جهدها في سبيل رفاهية الفرد لديها تجد كل القبح و الرفض في ممارسة القسوة

و تضل الفضيلة الطريق بين أولئك و هؤلاء فاللذي يجد الفضيلة في قطع يد السارق يرى على الجانب الآخر تساهلاً بل و فساداً في مجرد توبيخ السارق أو فرض عقاب معنوي عليه بينما صاحب الوجدان الأرقى يجد الوحشية في قطع يد السارق لكون الإنسان هو فكر قبل أن يكون جسد فأين الفضيلة ؟

الفضيلة إذن أصبحت رهناً بوجهة النظر مثلما هي العدالة فاللذي يقول من قتل يقتل لا يجد عدالته في دولة تمنع الإعدام و حينها تتغلب وجهة النظر الأخرى على رغبة الإنسان ليجد نفسه مضطراً لقبولها و تدريجياً يجد نفسه مؤمناً بها

لكن الفضيلة بأشكالها المختلفة سواء كانت مقبولة أو مرفوضة هي أمر ضروري و مطلوب لتسيير حياة البشر كيفما أرادوا لها أن تكون فبدون الفضيلة و بدون العدالة تصبح الغلبة لنداء الرغبة و الشهوات و تصبح الحياة الإنسانية مثالاً متطابقاً للحياة الحيوانية و اللتي حرمت من الفكر و الإبداع الإنساني ، و لكن هل تلك الحياة حرمت من الفضيلة ؟

سؤال أجده في قمة العمق فهل الحياة الحيوانية بقانون الغاب اللذي يحكمها هي حياة تفتقر إلى الفضيلة و العدالة ؟

قد تكون الإجابة بنعم رغم أن إستمرار تلك الحياة منذ الأزل يضع أمام أعيننا حقيقة وجود قواعد و نظام صارم لتلك الحياة لتستمر على مدار كل هذا الزمن فمن غير المنطقي أن تكون حياة الغاب بلا نظام و لا عدالة و تستمر آلاف بل ملايين السنين

و عندما تكون الإجابة لا نجد أمامنا حقيقة أكثر مرارة و هي أن حياة الحيوان تعتمد على مبدأ البقاء للأقوى مما يعني الوحشية بمقياس الإنسان رغم أن تلك الوحشية كما يسميها الإنسان هي أسلوبه في التعامل مع الحيوان ، فمنطق العلاقة بين عالم الإنسان و عالم الحيوان منطق وحشي و رغم ذلك تستمر الحياة و لا تنتهي و لا تشكو من جور جنس على آخر

بعيداً عن عالم الحيوان و قانون الغاب نعود إلى صديقنا الإنسان صاحب المباديء المنقوصة لخدمة أغراضه الشخصية ، و صاحب التنوع الفكري على مر العصور في التعاطي مع المجتمع كبيئة محيطة يتطلع الإنسان فيها إلى التعايش و التأقلم بحيث يشبع رغباته و لا يعتدي على رغبات الآخرين ، ينال حقوقه و لا يسلب الآخرين حقوقهم ، بيد أن تلك المشكلة لم تكن لتصبح مشكلة أمام الأضعف بل هي أصبحت مشكلة أمام الأقوى أو المتساوي في الرتبة بينما الأضعف يعاني دائماً من التمييز و العنصرية ، لذلك كانت العدالة كسيحة و منقوصة فعندما تضطهد الأكثريات الأقليات تصبح العدالة موئودة بلا ذنب و كذا العنصرية اللتي تمزق داخل المظلوم كل معاني إنسانيته و رقيه و تمنح ضميره رخصة مفتوحة لممارسة كل أشكال الرذيلة دون وازع

لقد بنيت العنصرية على الإختلاف فالمختلف مع الأقوى يجب محوه أو إستعباده و تنوع هذا الإختلاف بين اللون و العرق و الجنس و الدين و اللغة و غيرهم

بيد أن أقسى أنواع العنصرية هي تلك المبنية على الجنس ذلك أنها لن تنتهي إلى قيام الساعة فعناصر الإختلاف الأخرى قد تلاقي مقاومة نتيجة المجموع و الكثرة بينما عنصر الجنس يبقى ثابتاً حيث يستعبد الجنس الأقوى الجنس الأضعف بشتى الطرق و الألوان

و بينما الإنسان يجد في عالمه فضيلته و ينفيها عن العوالم الأخرى يثبت التاريخ و الدراسة أن العوالم الأخرى رغم بدائيتها كعالم الحيوان و عالم الحشرات هي عوالم مفعمة بالفضيلة و لكنها فضيلة عذراء لم تتعرض للتجريف كما تعرضت فضيلة الإنسان و اللتي تحولت من قتل القاتل إلى سجنه و أحياناً تغريمه بينما في العوالم الأخرى لم تتغير الفضيلة منذ البداية و حتى قيام الساعة فهي فضيلة لن تتغير ، و قد لا يراها الإنسان تماماً مثلما لا يرى الأشعة تحت الحمراء و لا يسمع صوت الخفاش بينما الخفاش يسمع صوت ذاته و يسمع صوت الإنسان أيضاً ، و إجمالاً فليس ما لا يراه الإنسان حتماً ليس موجوداً و كائناً بل هو موجود و قائم و لكن حواس الإنسان القاصرة لا تراه

ففضيلة الحيوان قائمة و لكن منطق الإنسان لا يدركها ، كما أنها فضيلة بكر و ليس ثيب كما فضيلة الإنسان

و إجمالاً أصبحت الفضيلة ما هي إلا شيء نسبي ليس له قياس ثابت فلا نراه إلا بنسبته إلى قيمة ثابتة فتجريم السرقة لم يكن كذلك إلا بعد وضع قيمة ثابتة تسمى القانون لذلك أصبح الشرف هو الإلتزام بالقانون و لكن الشرف دابة عمياء يقودها القانون المولود من رحم الوجدان الإنساني صاحب الفضيلة النسبية و العدالة الكسيحة و ما بني على باطل فهو باطل

يسود الإرتباك المنظم عالمنا البشري ليجعل من حياتنا أمواج متلاطمة تروح و تغدو حاملة معها قيمنا الإنسانية كما نعرفها صعوداً و هبوطاً

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

الفضيلة ..!!
ولذلك إكتشفت النسبية حتى نكون أكثر رحمة بأنفسنا والعالم..
الفضيلة نسبية بالفعل يا صديقى ..ولست أجد الجدوى فى تثبيتها أو فى تعميمها..من الصالح جدا بل من المفيد أنها نسبية من مجتمع لآخر..المهم هو أن يلتزم بها الإنسان داخل جماعته..
الفضيلة هى اجتهاداتنا لتطوير الإنسانية ولذا فهى ليست صماء وإنما حية ومتغيرة وقابلة للتغيير..
لابد من مرجعية للفضيلة أرى أنها تتمثل فى الأخلاق..والأخلاق قيم..قيم تتسم ببعض الثبات والعموم فى كل المجتمعات هذا لأن الأخلاق إنما ارتبطت بالأديان وبرسالتها السامية ..الإشكالية فى الجمع بين الدين والحياة..أو متى نفصل ..هى الخطة تلك التى لم نفعلها بعد..
الإنسان بطبعه هل يميل للفضائل أم للرذائل ؟
فطرة الإنسان هل نتبعها منهجاً ..هل النفس فى أصلها سوى ؟..
سؤال..وأتابع ..